فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

الهمزة في {أَيَوَدُّ} استفهام لأجل الإنكار، وإنما قال: {أَيَوَدُّ} ولم يقل أيريد لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبة التامة ومعلوم أن محبة كل أحد لعدم هذه الحالة محبة كاملة تامة فلما كان الحاصل هو مودة عدم هذه الحالة ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت فقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} حصول مثل هذه الحالة تنبيهًا على الإنكار التام، والنفرة البالغة إلى الحد الذي لا مرتبة فوقه. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

{من نخيل} جمع نخلة، وهي الشجرة القائمة على ساق، ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله {وأعناب} جمع عنب وهو شجر الكرم لا يختص ثمره بجهة العلو اختصاص النخلة، بل يتفرّع علوًا وسفلًا ويمنة ويسرة، مثله كمثل المؤمن المتّقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى وصف هذه الجنة بصفات ثلاث:
الصفة الأول: كونها من نخيل وأعناب، واعلم أن الجنة تكون محتوية على النخيل والأعناب، ولا تكون الجنة من النخيل والأعناب إلا أن بسبب كثرة النخيل والأعناب، صار كأن الجنة إنما تكون من النخيل والأعناب، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أشرف الفواكه ولأنهما أحسن الفواكه مناظر حين تكون باقية على أشجارها.
والصفة الثانية: قوله: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} ولا شك أن هذا سبب لزيادة الحسن في هذه الجنة.
الصفة الثالثة: قوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} ولا شك أن هذا يكون سببًا لكمال حال هذا البستان فهذه هي الصفات الثلاثة التي وصف الله تعالى هذه الجنة بها، ولا شك أن هذه الجنة تكون في غاية الحسن، لأنها مع هذه الصفات حسنة الرؤية والمنظر كثيرة النفع والريع، ولا تمكن الزيادة في حسن الجنة على ذلك، ثم إنه تعالى بعد ذلك شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة، فقال: {وَأَصَابَهُ الكبر} وذلك لأنه إذا صار كبيرًا، وعجز عن الاكتساب كثرت جهات حاجاته في مطعمه، وملبسه، ومسكنه، ومن يقوم بخدمته، وتحصيل مصالحه، فإذا تزايدت جهات الحاجات وتناقصت جهات الدخل والكسب، إلا من تلك الجنة، فحينئذ يكون في نهاية الاحتياج إلى تلك الجنة. اهـ.

.قال الماوردي:

{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} لأن الكِبَر قد يُنسِي من سعى الشباب في كسبه، فكان أضعف أملًا وأعظم حسرة.
{وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} لأنه على الضعفاء أحَنّ، وإشفاقه عليهم أكثر. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} وقرئ جنات {مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما، والنخيل قيل: اسم جمع، وقيل: جمع نخل وهو اسم جنس جمعي، و{أعناب} جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك لأن النخلة كلها منافع ونعمت العمات هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها حين يأذن ربها، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره. اهـ.

.قال الفخر:

فإن قيل: كيف عطف {وَأَصَابَهُ} على {أَيَوَدُّ} وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل.
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول: قال صاحب الكشاف {الواو} للحال لا للعطف، ومعناه {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} حال ما أصابه الكبر ثم إنها تحرق.
والجواب الثاني: قال الفرّاء: وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيود أحدكم إن كان له جنّة وأصابه الكبر.
ثم إنه تعالى زاد في بيان احتياج ذلك الإنسان إلى تلك الجنّة فقال: {وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء} والمراد من ضعف الذرية: الضعف بسبب الصغر والطفولية، فيصير المعنى أن ذلك الإنسان كان في غاية الضعف والحاجة إلى تلك الجنة بسبب الشيخوخة والكبر، وله ذرية في غاية الضعف والحاجة بسبب الطفولية والصغر.
ثم قال تعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت} والاعصار ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود، وهي التي يسميها الناس الزوبعة، وهي ريح في غاية الشدة ومنه قول شاعر:
إن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارا

والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله، بل يقرن بها أمورًا تخرجها عن كونها موجبة للثواب، فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وقوله: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]. اهـ.

.قال الثعلبي:

وإنّما قال: {أَصَابَهُ} فردّ الماضي على المستقبل؛ لأن العرب تلفظ توددت مرّة مع لو وهي الماضي فتقول: وددت لو ذهبتَ عنّا، ومرّة مع أن وهي للمستقبل فتقول: وددت أن تذهب عنّا، ولو وأن مضارعان في معنى الجزاء، ألا ترى أنّ العرب فيما جمعت بين لو وأن قال الله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ}. الآية كما تجمع بين ما وأن وهما جحد.
قال الشاعر:
ما أنْ رأيت ولا سمعت بمثله ** كاليوم طالي أينق جرب

فلما جاز ذلك صلح أن يقال: فعل بتأويل يفعل ويفعل بتأويل فعل، وأن ينطق بلو عنها ما كان أن وب أن مكان لو. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت} قال الحسن: {إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} ريح فيها برد شديد.
الزجاج: الإعصار في اللغة الريح الشديدة التي تَهُبّ من الأرض إلى السماء كالعمود، وهي التي يُقال لها: الزوبعة.
قال الجوهريّ: الزوبعة رئيس من رؤساء الجِن؛ ومنه سُمِّيَ الإعصار زوبعة.
ويُقال: أُمّ زوبعة، وهي ريح تُثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود.
وقيل: الإعصار ريح تثير سحابًا ذا رعد وبرق.
المَهْدَوِيّ: قيل لها إعصار لأنها تلتفّ كالثوب إذا عُصر.
ابن عطية: وهذا ضعيف.
قلت: بل هو صحيح: لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودًا مُلْتَفًّا.
وقيل؛ إنما قيل للريح إعصار؛ لأنه يعصر السحاب، والسحاب مُعْصِرات إمّا لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء.
وإمّا لأنها تنعصر بالرياح.
وحكى ابن سِيَده: أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب.
ابن زيد: الإعصار ريح عاصف وسَموم شديدة؛ وكذلك قال السديّ؛ الإعصار الريح والنار السَّموم.
ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة.
قال ابن عطية: ويكون ذلك في شدّة الحرّ ويكون في شدّة البرد، وكل ذلك فَيْح جهنم ونفَسِها؛ كما تضمن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا عن الصَّلاة فإن شدّة الحرّ من فَيْح جهنم». اهـ.

.قال الألوسي:

وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصارًا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور، وقيل: لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها، والتنوين في النار للتعظيم وروي عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقًا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال فأصابها نار {فاحترقت} لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر، والفعل المقرون بالفاء عطف على {أَصَابَهَا} وقيل: على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها فاحترقت وهذا كما روي عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباءًا منثورًا بحال من هذا شأنه. اهـ.

.قال القرطبي:

يريد كي ترجعوا إلى عظمتي ورُبُوبِيتِّي ولا تتخذوا من دوني أولياء، وقال ابن عباس أيضًا: تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. اهـ.

.قال الماوردي:

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآْيَاتِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: يوضح لكم الدلائل.
والثاني: يضرب لكم الأمثال.
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: تعتبرون، لأن المفكر معتبر.
والثاني: تهتدون، لأن الهداية التَّفَكُّر. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}.
التفسير: إنه سبحانه لما ذكر من أصول المبدأ والمعاد ما اقتضاه المقام أتبعه ببيان التكاليف والأحكام. قال القاضي في كيفية النظم: إنه تعالى لما أجمل في قوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة} [البقرة: 245]، فصّل بعد ذلك بهذه الآية تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته على الإحياء والإماتة لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب بعد الحشر لكان التكليف بالإنفاق وسائر الطاعات عبثًا كأنه قال: قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمي عليك بالإحياء والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأصول داعيًا إلى إنفاق الأموال فإنه يجازي القليل بالكثير، ثم ضرب لذلك الكثير مثلًا وهو من الواحد إلى سبعمائة. وعن الأصم أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد ما احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته. وقيل: إنه تعالى لما بين أنه وليّ المؤمنين، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت، بيّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت. قلت: لما بين صحة المعاد ولابد له من زاد ولا يمكن التزود من الأموال التي يمتلكها العباد بالإنفاق، أتبعه أحكامه فقال: {مثل الذين} ولابد من إضمار ليصح التشبيه أي مثل صدقاتهم كمثل حبة أو مثلهم باذر حبة.
وسبيل الله دينه. فقيل الجهاد، وقيل جميع أبواب الخير. والمنبت هو الله، ولكن الحبة لما كنت سببًا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقًا يتشعب منها سبع شعب لكل واحد سنبلة. وهذا التمثيل تصوير للأضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد، على أنه قد يوجد في الجاورس والذرة وغيرهما مثل ذلك. وسبع سنابل مثل ثلاثة قروء في إقامة جمع الكثرة مقام القلة. {والله يضاعف} أي تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين في الإخلاص، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستحق ذلك في مشيئته. {والله واسع} كامل القدرة على المجازاة لأن فيضه غير متناه {عليم} بمقادير الإنفاقات وبمواقعها ومصارفها بإخلاص صاحبها، وإذا كان الأمر كذلك فلن يضيع عمل عامل له عنده. ثم لما عظم أمر الإنفاق أردف ببيان الأمور التي يجب رعايتها حتى يبقى ذلك الثواب منها: ترك المن والأذى، والمنّ قد يراد به الإنعام قال تعالى: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] وقد يراد به إظهار الاصطناع وهو مذموم ولهذا قيل: صنوان من منح سائله ومنّ ومنع نائله وضنّ. وذلك لما فيه من انكسار قلب الفقير، ومن تنفير ذوي الحاجة عن صدقته، ومن عدم الاعتراف بأن النعمة نعمة الله والعباد عباده، وأن المعطي هو الله. وإذا كان العبد في هذه الدرجة كان محرومًا عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقية، وكان في درجة البهائم التي لا يترقى نظرهن من المسحوس إلى المعقول، ومن الآثار إلى المؤثرات. وأما الأذى فمهم من حمله على أذى المؤمنين على الإطلاق، والمحققون خصصوه بما تقدم ذكره وهو أن يتطاول على الفقير بما أدل إليه ويقول له: ألست إلا مبرمًا وما أنت إلا ثقيل، وباعد الله ما بيني وبينك. ومعنى ثم تراخي الرتبة وإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق بل ترك كل منهما لأنهما نكرتان في سياق النفي {لهم أجرهم} وقال فيما يجيء {فلهم أجرهم} [البقرة: 274] لأن الموصول هاهنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة، وفرق معنوي وهو أن الفاء دلالة على أن الإنفاق سبب استحقاق الأجر وطرحها عارٍ عن تلك الدلالة. ثم إنه ذكر هنالك الإنفاق منهم على سبيل المواظبة والاستمرار فكان التأكيد بما يوجب الربط بينهما ما هنالك أنسب. {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أي لا يخافون فوات ثواب الإنفاق. ولا يحزنون بالفوات كقوله: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا} [طه: 112] والمراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ولا يحزنهم الفزع الأكبر. ويعلم من قوله: {في سبيل الله} أن قوله: {لهم أجرهم} مشروط بأن لا يوجد منهم الكفر، ويعلم من قوله: {ثم لا يتبعون} أن المن والأذى من قبيل الكبائر حيث يخرجان هذه الطاعة العظيمة عن الاعتداد بها.
احتجت المعتزلة بالآية من وجهين: الأول أن العمل يوجب الأجر لقوله: {لهم أجرهم} وأجيب بأن ذلك بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل. الثاني أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وإلا لم يكن المن والأذى مبطلين ثواب الإنفاق، وأجيب بأن الإنفاق على تقدير المن والأذى لا ثواب له أصلًا، فكيف يتصور رفع ما لم يوجد؟ {قول معروف} تقبله القلوب ولا تنكره وذلك أن يرد السائل بطريق أحسن وعدة حسنة {ومغفرة} عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول لأنه إذا رد بغير مقصوده فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل أو عفو من جهة السائل بأن يعذر المسؤول إذا رده ردًا جميلًا {خير من صدقة يتبعها أذى} لأنه إذا أتبع الإيذاء الإعطاء فقد جمع بين الإنفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر. وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إيصال السرور إلى قلب المؤمن ولا إضرار، فكان الأولى {ومن الناس} الناس من خصص الآية بالتطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل فيه. ورد بأن الواجب قد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير {والله غني} عن صدقة كل منفق، فما وجه المن؟ {حليم} عن معاجلته بالعقوبة إذا مَنّ، ولا يخفى ما فيه من الوعيد. ثم إنه تعالى ضرب لكل واحد من المؤذي وغير المؤذي مثلًا فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وعن ابن عباس: بالمن على الله والأذى للفقير، {كالذي} أي كإبطال المنافق الذي {ينفق ماله رئاء الناس} وهو أن يرائي بعمله غيره ولا يريد رضا الله وثواب الآخرة، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين للذي ينفق، فمثله الضمير إما أن يكون عائدًا إلى المنافق على أنه تعالى شبه المانّ بالمرائي المنافق، ثم شبه المنافق بالحجر. وإما أن يعود إلى المانَّ المؤذى على أنه شبهه بالمنافق ثم شبهه بالحجر.
والصفوان الحجر الأملس، الوابل المطر العظيم القطر، والصلد الأجرد النقي ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق. وهذا المثل ضربه الله لعمل المانِّ المؤذي ولعمل المنافق، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالًا كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ولم يؤت بها على وجه يستحق الثواب كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب. وأما المعتزلة فقالوا: إن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب، ثم إن المنَّ والأذى أزالا ذلك الأجر بناء على مذهبهم من الإحباط والتكفير.
فعلى مذهبنا: العمل الظاهر كالتراب، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل. وعلى قولهم: المن والأذى كالوابل، وعن القفال: إن عمل المانِّ مشبه بما إذا طرح بذرًا في صفوان صلد عليه غبار قليل، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودع بذره خاليًا لا شيء فيه. ألا ترى أنه ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ وعلى هذا فقوله: {لا يقدرون على شيء} الضمير فيه عائد إلى معلوم غير مذكور، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي فرض على الصفوان لأنه خرج عن الانتفاع به، فكذا المانُّ والمؤذي والمنافق لا ينتفع واحد منهم بعمله يوم القيامة، وناهيك بكون المانِّ والمنافق ملزوزين في قرن شناعة شأن المن والأذى، وقيل: الضمير عائد إلى الذي إما لأن من والذي متعاقبان فكأنه قيل: كمّن ينفق، وإما لأن المراد المراد الفريق الذي، وإما لأنه أشير بالذي إلى الجنس والجنس في حكم العام. وقيل: المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فإنكم إن فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة كقوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22]. {والله لا يهدي القوم الكافرين} معناه- على قولنا- سلب الإيمان عنهم، وعلى قول المعتزلة أنه يضلهم عن الثواب وطريق الجنة لسوء اختيارهم {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله} طلبًا لمرضاته {وتثبيتًا من أنفسهم} قيل: أي يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها من المن والأذى. وقيل: تثبيتًا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد {وتبيينًا} من البيان. وقيل: إن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالرياضة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال، فإذا بذل ماله وروحه معًا فقد ثبت نفسه كلها {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} [الصف: 11] وإذا بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، فعلى هذا من للتبعيض ذكره في الكشاف، قال الزجاج: تصديقًا للإسلام وتحقيقًا للجزاء من أصل أنفسهم جازمين بأن الله تعالى لا يضيع ثوابهم فمن على هذا للابتداء، وجزمهم بالثواب هو المراد بالتثبيت. وعن الحسن ومجاهد وعطاء: المراد أنهم يثبتون أنفسهم تثبيتًا في طلب المستحق وصرف المال في وجهه. قال الحسن: كان الرجل إذا هَمَّ بصدقة يتثبت فإن كان لله أمضى وإن خالطه شك أمسك. وقيل: إنه إذا أنفق لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وحظ من حظوظها فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه فذلك الاستقرار هو التثبيت. ويحتمل أن يكون المراد به حصول ملكة الإنفاق بحيث يحصل عنه بطريق الاطراد والاعتياد لا بطريق البخت والاتفاق، فإن الأخلاق ما لم تصر ملكات لصاحبها لم تكد يظهر على جوهر النفس صفاؤها ونوريتها.
والمعنى أن مثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله كمثل جنة وهي البستان. وقرئ: {كمثل جنة بربوة} بمكان مرتفع من ربا الشيء يربو إذا زاد وارتفع، ومنه الربو لزيادة التنفس، والربا في المال. قيل: وإنما خص المكان المرتفع لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرًا. واعترض عليه بأن المكان المرتفع لا يحسن ريعه لبعده عن الماء وربما تضربه الرياح كما أن الوهاد لكونها مصب المياه قلما يحسن ريعها، فإذن البستان لا يصلح له إلا الأرض المستوية، فالمراد بالربوة أرض طيبة حرة تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر، فإنها إذا كانت على هذه الصفة كثر دخلها وكمل شجرها كقوله تعالى: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] ومما يؤكد ما ذكرنا أن هذا المثل، في مقابلة المثل الأول، فكما أن الصفوان لا يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فينبغي أن تكون هذه الأرض بحيث تربو وتنمو {فآتت أكلها} أي ثمرتها وما يؤكل منها {ضعفين} مثلي ما كان يعهد منها. وقيل: مثلي ما يكون في غيرها {فإن لم يصبها وابل فطل} مطر صغير القطر يصيبها ولا ينتقص شيء من ثمرها لكرم منبتها، أو المراد أنها على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر قل أم كثر، وكذلك من أخرج صدقة لوجه الله لا يضيع كسبه وفّر أم نزر. ويحتمل أن يمثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل، وكما أن الكل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم تزيد في زلفاهم وحسن حالهم {والله بما تعملون} من وجوه الإنفاق وكيفيتها والأمور الباعثة عليها {بصير} فيجازي بحسب النيات وخلوص الطويات. ثم إنه سبحانه رغب في الإنفاق المعتبر الجامع لشرائطه وحذر عن ضده بأن ضرب مثالًا آخر فقال: {أيود أحدكم} والهمزة للإنكار البالغ أي لن يود. قرئ: {له جنات} وقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف الأول: كونها من نخيل وأعناب كأن الجنة إنما تكوّنت منهما لكثرتهما فيها. الثاني: تجري من تحتها الأنهار، ولا شك أن ذلك يزيد في رونقها وبهائها. والثالث: فيها من كل الثمرات، وإنما خص النخيل والأعناب أولًا بالذكر لأنهما أكرم الشجر أو أكثرها منافع. قال في الشكاف: ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيهما كقوله: {وكان له ثمر} [الكهف: 34] بعد قوله: {جنتين من أعناب وحففناهما بنخل} [الكهف: 32]. ثم شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال: {وأصابه الكبر} أي والحال أنه قد أصابه الكبر. وقال الفراء: إنه معطوف على {يود} واستقام نظر المعنى لأنه يقال: وددت أن يكون كذا، ووددت لو كان كذا، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة واصابه الكبر وله ذرية ضعفاء.
وقرئ: {ضعاف} أي صبيان وأطفال {فأصابها إعصار} ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود {فيه نار فاحترقت} أي الجنة ولا يخفى أن هذه المثل في المقصود أبلغ الأمثال، فإن الإنسان إذا كان له جنة في غاية الكمال، وكان هو في نهاية الاحتياج إلى المال- وذلك أوان الكبر مع وجود الأولاد الأطفال- فإذا أصبح وشاهد تلك الجنة محترقة بالصاعقة، فكم يكون في قلبه من الحسرة وفي عينه من الحيرة؟ فكذا الإنفاق نظير الجنة المذكورة وزمان الاحتياج يوم القيامة، فإذا أتبع الإنفاق النفاق أو المن والأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة ويورثه الخيبة والندامة. اهـ.